مأساة سجينة فلسطينية في إبداع سينمائي

“3000 ليلة” مأساة سجينة فلسطينية في إبداع سينمائي خلف الأسوار

  • “3000 ليلة” مأساة سجينة فلسطينية في إبداع سينمائي خلف الأسوار

ثقافة وفنون قبل 5 سنة

“3000 ليلة” مأساة سجينة فلسطينية في إبداع سينمائي خلف الأسوار

كمال القاضي

ثمة تطور واضح وملحوظ في كيفية المعالجة وطرح القضية بأسلوب يغاير الثابت والتقليدي في منهجية السينما الفلسطينية، بزخمها الثوري والنضالي، حيث يتم التركيز في التجربة الفارقة للكاتبة والمخرجة مي المصري عبر فيلمها الروائي الطويل “3000 ليلة” على الجوانب الإنسانية في مأساة المواطنة الفلسطينية، التي تم القبض عليها وحبسها من قبل سُلطات الاحتلال الإسرائيلي، وهي في شهور الحمل الأولى، فيتم التناول الواقعي وفق القصة الحقيقية التي جرت أحداثها بالفعل، وظلت دليلاً دامغاً على همجية الممارسة السُلطوية من جانب إسرائيل بغير غطاء قانوني يحمي حقوق السجناء ويضمن عدالة التحقيق.

وللوهلة الأولى يعيدنا الفيلم المهم إلى قصة المناضلة الجزائرية جميلة بوحريد التي قدمها المخرج يوسف شاهين قبل نحو نصف قرن تقريباً، ويأخذنا إلى أجواء الاعتقال والتعذيب، فنلحظ ذلك الصمود المعتاد في الشخصية الفلسطينية متمثلاً في ثبات البطلة ميساء عبد الهادي وعنادها، أمام المحاولات اليائسة لإجبارها على الاعتراف بأنها تابعة لتشكيل سياسي فدائي يعمل على مقاومة السُلطات الإسرائيلية ويحرض عليها، وتبعاً لما هو معد سلفاً تُصدر المحكمة حكمها الجائر ضد السجينة بالحبس لمدة ثماني سنوات، وهي ذاتها الثلاثة آلاف ليلة المعنون بها الفيلم، والركيزة الأساسية للأحداث السياسية الإنسانية التراجيدية المؤثرة، التي تعرضها المخرجة في الزمن الدرامي بمستويات مختلفة، عطفت من خلالها على نواح كثيرة في حياة وواقع المرأة الحديدية، التي تحدت الظروف ورفضت إجهاض جنينها وأبقت عليه فحملته في رحمها طوال الأشهر التسعة، متحملة عناء التعذيب ومشقة الحفاظ عليه، باعتباره الأمل الباقي لها في الحياة بعد انتكاسها في الزوج المتخلي وخيبة رجائها فيه، وأيضاً بوصفه الامتداد الطبيعي للمستقبل المنظور خارج السجن، وهي دلالة قوية عبرت عنها المخرجة في مشهد الولادة، حين ظل الشعاع المتسلل من نافذة الغرفة المعتمة مُسلطاً على الطفل لبضع ثوان، كانت كافية بتوصيل المعنى والتأكيد عليه.

وقد تكررت حالة استشراف المستقبل في بعض المشاهد الغنية بالمشاعر والأحاسيس الإنسانية، إذ تم الربط بين الطفل ومراحل نموه داخل السجن وبين ارتفاع الروح المعنوية للأم التي ظلت تبتكر العديد من وسائل وأساليب التسرية والترفية عن ابنها بأشكال مختلفة، مستخدمة خُدعة خيال الظل وتحريك الأيدي والأصابع، في رسم أشكال من الطيور والحيوانات على حائط الزنزانة لإثارة خياله وتنمية وعيه وإدراكه وفصله عن أجواء السجن الكابوسية القاتلة.

وفي هذا الإطار استطاعت مي المصري أن تكشف لنا جانباً مخفياً من حياة السجينات داخل الزنازين، بأوجه مختلفة ومتعددة، فأطلعتنا على تفاصيل المشاحنات والمشاجرات ومؤامرات الكيد النسائي بين عموم المسجونات، وبصفة خاصة ما يحاك ضد السجينات الفلسطينيات من نظيراتهن الإسرائيليات، جراء العداء المتبادل بينهن على خلفية الصراع الدائر والمحتدم خارج السجون وداخلها، وهو ما يمكن اعتباره بديهية نجحت المخرجة في استغلالها درامياً بالشكل المطلوب، لتعزيز فكرة الفيلم ومغزاه، كما لم تغفل أيضاً الجانب الآخر المتضمن في حالات الفرح المختلس وسط عتمة الزنازين، وهي مساحات وفيرة عمدت مي إلى إظهارها كإشارة إلى التكيف القسري لبطلاتها، ميساء ونادرة عمران وهيفاء أغا، مع الظروف الراهنة لتجديد طاقة المقاومة، وعدم نفاد القدرة على الاحتمال، وادخار الصبر كمخزون استراتيجي يعين على الاستمرار والبقاء وحفظ التوازن بما يدل أيضاً على قوة الشخصية الفلسطينية وميكانيزمات الدفاع الحيوية لدى المرأة بصفة خاصة، وهو ما يعد انحيازاً مبرراً للمرأة بشكل ضمني عبّرت عنه اللغة السينمائية البليغة والرؤية الكاملة للفيلم.

وإن كان قد بدا في المقابل ملمحاً لإدانة النموذج المتخاذل والضعيف لبعض الرجال في صورة الزوج الانتهازي، الذي لم يتحمل مسؤوليته تجاه زوجته وابنه، ولعب في حياتهما دور ضيف الشرف على استحياء، ولم يكن مُخلصاً في شعوره أو سلوكه على الإطلاق، ومن ثم لا يجوز تمريره مرور الكرام ونزعه من السياق الدرامي للأحداث كأنه لم يكن، فلا شك في أن وجوده في هذه الحيثية كان مقصوداً.

ولعل ما ذُكر عن إخفاق الزوج في القيام بواجبة تجاه عائلته لا يترجم رأياً عاماً للكاتبة والمخرجة في الرجل بصفة مطلقة، وإنما هو في الواقع لا يمثل أكثر من الحالة المقصودة فقط، والدليل أن هناك نموذجاً آخر لرجل متعاون ومخلص ورومانسي تمثل في الطبيب الذي اعتنى بالبطلة ومنحها اهتماماً كبيراً فحول مشاعرها في الاتجاه الإيجابي نحوه، وتم التصريح بذلك في مشهد حُلم اليقظة الذي استغرقها استغراقاً كاملاً ووضحت دلالاته على الشاشة في لقطات رئيسية معبرة، الأمر الذي ينفي وجود موقف عدائي بذاته من كل الرجال، وإنما يسمح باستيعاب الحالة المذكورة سلفاً لأسباب منطقية وموضوعية.

وبخلاف التفاصيل الثرية التي حاولنا قراءتها في ضوء ما وصلنا منها، تبقى هناك مساحات من التجلي في موهبة المخرجة مي المصري، تترجمها البانوراما الكاملة للفيلم، وتنبئ بها الصورة الموحية بقسوة السجن ومرارة الظلم وقيمة الحرية التي لا يشعر بها إلا فاقدها، ومن حُرم منها لأيام أو شهور أو ثلاثة آلاف ليلة وهي النهاية التي أُغلق عليها القوس ليبقى المعنى داخله.

 

التعليقات على خبر: “3000 ليلة” مأساة سجينة فلسطينية في إبداع سينمائي خلف الأسوار

حمل التطبيق الأن